ما صدح فى ليالي أفراحنا الشعبيه و لا ألهب أكفنا بشتاويه الساحره و قاد أسماعنا بغناويه الرائعه نحو عالم البهجه .
عبد الكافي ذلك العملاق الذي كان يتولى بِإقتدار خارق أشعة الفرح النبيل أماسينا البريئه ، و يحيل سويعاتها إلى مهرجان أسطوري مطرزه أطرافه بالود و الألفه .
عامل بسيط بمشروع غوط السلطان لم يدخل فى حياته مدرسه ، و لم يتلق علماً و ما ورث مالاً و لا جاهاً ، و لا أبصرت عيناه النور في أحد - نجوع الأبيار - و هام على شعره في هضابها التي رددت أغانيه المدهشه و هو يقتفي آثر ذلك القطيع الهزيل الذي كان يجوب به تلك المنحدرات المعشوشبه ، ليس له من مؤنس سوى تلك الترانيم التي كان يودعها تلك المرتفعات و السهوب الصامته .
لكن عام 1970م كان محطة هامه فى حياته ، حين قادته أذناه مصادفه إلى عرس شعبي بمنطقة سلوق ، فأقتحم صفوف المغنيين ليدلي بشهادته على جمال صوته و نبوغه في هذا الفن الشعبي الذي كان حكراً على أصوات معروفه ، و مُنذ تلك الصدفه الرائعه أصبح عبد الكافي نكهة كل عرس ، و أيقونة كل حلقه من حلقات السمر ، صحبة أساطين الفن الشعبي من أمثال ( عمر العوامي – محمد البزاري – سليمان سعد الشريمه - علي طاهر حواء – عبد الله عبد الواحد أردانو – عثمان ميلاد ) ثم شكل فيما بعد منتخباً يضم أشهر غناية العلم و الشتايه أمثال ( عبد الحميد السعيطي الدولاج - يوسف طاهر - إدريس الصافي – مرعي بو فرنه - جمعه العقوري – عوض حامد - و غيرهم من حملة اللواء ) فكانت جوقه شعبيه تزدان بها الليالي و الأفراح الشعبيه .
لكن عبد الكافي كان بحق فارس تلك الليالي البهيه و قائد مجاميعها بلا منازع - بصوته القوي الجميل الذى كان يفوق مكبرات الصوت و ( عربه ) الساحره و كلماته المؤثره .
و لعل المجال هنا لا يتسع لسرد ما كان يدور فى تلك الأعراس الشعبيه و كيفية زرع الشتاوه و ردمها و أختيار موضوعها ، لهذا أستحق عبد الكافي وحده لقب ( الكاتربيل ) لأنه كان يكتسح كل العوائق و المرتفعات الشعريه التي كانت تعترض سبيله .
حاضر الذهن كان - سريع البديهة كان ، لا تستعصي عليه القوافي و لا الكلمات فتنثال أمامه كأنه يقرأها غيباً ، فقد كانت له إلى جانب الموهبه الفذه قدرة على ترجمة بعض الأغانى المعروفه إلى غناوي علم ، فأصبحت فيما بعد عند عشاق الأدب الشعبي أشهر من الأغاني الأصيلة التي عارضها .. !
فإن كانت أم كلثوم تقول في أحد أغانيها ( إن مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبشي من عمري ) فإن عبد الكافي يترجم ذلك في قوله :
إن مر يوم مانك فيه ، مِـ العمر يا علم ما ينحسب .. !
أو رده الظريف على المطربة السعوديه "عتاب " في أغنيتها ( ودانا ) حيث يقول :
في بعده وِ في دنواه ، عزيز واه وِادانا علي .. !
و ثمة من يقول أن عبد الكافي و خلال ثلاثين عاما لم يكرر غناوة أو شتاوة قالها قط إلا مرة واحدة ، و ذلك عندما أقسم عليه أحد أصدقائه فأعاد .
و لم يعرف عنه إنه تقاعس عن تلبية دعوة فرح في حياته ، فكان عفيفا لم يتقاض درهما خلال مشاركته الناس أعراسهم .
لكن ثمة حدث آخر كان ينسجه القدر ، كان ذلك في أحد أيام شهر التمور من عام 2000 ، فـفي منطقة ( بطه ) حين كان قادما من زيارة صديق مريض ، فتعرض لحادث سير نقل على آثره لمستشفى الجلاء بنغازي .
سمع عشاق فنه الخبر ، فأتوه من كل صوب يطمئنون عليه ، و أزدحم المشفى ، و ضاقت بهم ردهاته مما أضطر إدارته للإستعانة بالشرطه لتفريقهم ، لكن الجموع الغفيره لم تتفرق ، بل خيمت أمام المستشفى لثلاثة أيام مستفسره عن حالته ، و لسان حالهم يقول :
صاحب صوب خليل أمطوح ، غير نفس يمشى و يروح .. !
اللي كان إيطرب فــ العين ، قعد ما بين السنادين .. !
أم أحدهم فقد أرتكن ركنا غير بعيد و عيناه مغرورقتان بالدموع ، و ينتحب في أسى صام :
يا ريت العزيز إيجيب ، العلم مِـ اللي فيه إيساولوا .. !
و أطبق عبد الكافي الساحر شفتيه ، و بقى مترجم العواطف فى الحجره رقم 6 بقسم جراحة الأعصاب عشرين يوما ، نقل بعدها إلى العاصمة الأردنية عمان ، و هناك أستغرب أحد الأطباء ذلك الزحام الشديد في حجرة عبد الكافي ، فسأل أحدهم عن منصب هذا الرجل فأجابه بإنه مترجم ، مترجم فقط .. ؟
إلتفت بها الطبيب فأجابه الصديق : نعم يا سيدى - إنه مترجم عواطف .
و يقول أحد أصدقائه أن آخر أغانيه كانت :
ليام لاطات معاي ، ما من شقا جايباتلي .. !
و عن الرحيل يقول :
مفروع يا رحيل غلاي ، زعزاعة خطا فيك صايره .. !
أما أشهر شتاوه طرز بها أحدى أمسيات الكشك فتقول :
حس رحيل أولافي حسه ، تربان تكلم في نصه .. !
لعله كان يستشرف ما سيحدث له من صمت رهيب كان ينتظره في ( بطه ) تلك الليلة الخريفيه ، هذا الرجل الأعجوبه يخلد الآن لصمت طويل منتظرا معجزة آلهيه - تعيده لوعيه ، و تنصبه بين الصفوف التي طالما توسطها منشرحا دعوات أصدقائه و مريديه و عارفيه و محبي فنه الأصيل تتجه كل آن صوب السماء متضرعه لله بشفاءه ، بقدر البهجة التي كان يرشقها بآبياته البريئه – و أنا بالطبع أحد هؤلاء – فقد كان لزاما أن اتحدث عنه لأجله و لأجل محبيه و وفاء لأدبنا الشعبي ، متمثلا فى أحد رواده الأفذاذ .
و في يوم الثلاثاء الموافق 2005/11/22 :
إنتقل الى رحمة الله بعد خمسة سنوات من ذلك الحادث الأليم الذي بقى على إثره في غيبوبة ، فنفقد بذلك أحد عمالقة رواد الشعر و الغناء في بلادنا و ليس بوسعنا إلا أن نقول ( إنا لله و إنا إليه راجعون ) ، و أن ندعو له بالرحمة و المغفره .
و شكراً للصديق الوفي - " صالح بو حزاميه " - إسهامه في جمع الماده الإبداعيه المنثوره .
كتبه لكم " مصطفى السعيطي " .
ملحوظه :
إذا أعجبك المنشور و أردت نسخه و نقله فلك ما شئت و بدون إستئذان ، لكن عليك ذكر المصدر و عدم حذفه و ذلك أكراماً و أحتراماً منك لصاحبه و من باب إنساب الحق لأهله .
#ع_الفاهق
Kommentar veröffentlichen