عابد جاد الله بوزيد العشيبي
**عابد جاد الله بوزيد العشيبي**
كان الشيخ جاد الله بوزيد العشيبي، شيخ مشايخ قبيلة العشيبات المعروفة من قبائل العواقير، رجلاً قلّ نظيره في المحاضر والمناظر. كان شيخاً وقوراً تدلّ ملاحمه عن الصرامة والشدة، قوة شخصية مع كثير من التواضع. وكانت مواعيده دقيقة، حيث يقول القول الفصل فيها. كان صاحب كلمة ورأي سديد، وهو من أول شخصيات برقة المعروفة الذين وقعوا مع والدي، أبو سيف ياسين، وثيقة الاستقلال المجيد.
وهذه الصفات جعلته قريب الصلة والتواصل مع والدي، فالطيور على أشكالها تقع كما يقول المثل. كان يأتي إلينا في منزلنا الكائن بشارع عمرو بن العاص (فيا روجينا سابقاً)، بالقرب من نظارة المعارف. وفي بداية الاستقلال، عين والدي ناظراً للمعارف في ولاية برقة ثم ناظراً للداخلية، فكان الشيخ جاد الله بوزيد كثير التردد علينا كلما حضر إلى بنغازي للتشاور في الشؤون العامة والخاصة. وكان جدي، الشيخ صالح عبد الله بوخمادة، في غالب الأحيان موجوداً معهم. وكانت تجمعهم صفة مشتركة واحدة هي الكاريزما أو قوة الشخصية الطاغية. رحمهم الله جميعاً.
كان الآباء في ذلك الوقت يحددون لأبنائهم من يتزوجون ومتى دون رأي للابن في ذلك، عملا بالحديث الشريف "تخيروا لأنطافكم فإن العرق دساس". وكان الأبناء مطيعون لا يخالفون لآبائهم أمراً، ثقة منهم في رأي هؤلاء الآباء وأنهم أدرى بمصلحتهم. فتقدم الحاج جاد الله يطلب يد أختي الصغرى لولده عابد الضابط الصغير بالجيش الليبي حديث التكوين. فوافق والدي على اتمام الزواج سعيداً بمصاهرة الشيخ جاد الله المقرب إلى قلبه فكراً وروحاً لتعزيز الروابط الأسرية بينهما.
وهكذا كانت أول معرفتي بعابد جاد الله. كنا نلتقي بعد زواجه بالمرج، حيث كانت اقامته في حامية المدفعية بالمرج لقضاء وقت ممتع خصوصا في أيام الربيع بين أحضان المروج الفيحاء ومناظر الجبل الأشم. ثم انتقل بعد ذلك ليكون قائداً لسلاح المدفعية بقاعدة بنينا، فأصبح التواصل بيننا سهلاً.
وأذكر مرة كان والدي قد جمع كافة العائلة لقضاء عطلة الصيف في بحر المقرون عند شاطئ يعرف بخشم الكبش من أجمل السواحل الرملية في ليبيا على الأطلاق وبينما نحن في انتظار عابد وأسرته اذ رأينا سيارة عسكرية مسرعة تقل الزعيم جبريل صالح الدرسي ياتي مهرولا ليبلغ الوالد أن عابد وأسرته تعرض لحادث مروري وأن نجله نور الدين مع والدة عابد قد فارقا الحياة وأن زوجته في حالة حرجة بمستشفى الحوادث فأسرعنا كلنا الى هناك. لاحظت مدى رباطة جأش عابد ومدى تحليه بالصبر في أحلك الظروف والمواقف.
مرة أخرى بعد الكشف عما عرف بمؤامرة قلب نظام الحكم في عام 62، تعرض عابد مع سبعة من ضباط الجيش من بينهم سالم الفرجاني وخليل العبار وعلي لطويش وعبدالوهاب العاشق وفرحات العماري والسنوسي شلوف. كان ذلك بسبب اقالة اللواء السنوسي لطويش وتعيينه سفيرا بوزارة الخارجية وكان الذي أصدر المرسوم الملكي السيد محمد عثمان الصيد رئيس الحكومة آنذاك بايحاء من العقيد عبدالعزيز الشلحي. وبعد صدور العفو الملكي عن الضباط المتهمين قبل اتمام مدة الحبس المقررة، قامت شركة أسو ليبيا بتعيين عابد جاد الله كمساعد لمدير التدريب والسلامة، بناءً على الثقة الكبيرة في خبرته العسكرية والاحترام الذي كان يتمتع به في العمل.
ورثيته عقب وفاته بالقصيدة التالية:
الحمد لله أحياناً ويفنينا والحمد لله من للحق يهدينا
الحمد لله من بالخير متعنا والحمد لله من بالشر يبلينا
رحليك عابد قاس علينا وفقدك ليس تمحوه السنينا
رفيق العمر قلبك من حديد أبى من قبل ألا يستكينا
فما عصفت به سود الليالي وما نالته أهوالاً مضينا
ولا كانت له الأهوال نداً فكان شموخه صلباً متينا
وكان صموده للظلم دهراً وكان ثباته في الرأي دينا
فلا حكم له بالسجن يجدي ولا الأعصاب من ضغط وهينا
ولا الأعداء إن نصبوا فخاخاً تغيّر عقله دوماً رزينا
كأني إذ أراك أبا فؤاد تعلق ساخراً بالمزح حينا
تلوم القلب ماذا قد داهاه تفجر ساخطاً سخطاً مبينا
أهل هذي هموم القلب زادت وفاض الكيل بالغم ارتوينا
أهل هذي قلوب الناس ماتت وأضحت مثل طوب الأرض طينا
أهل هذي عقول الناس غابت فأصبحنا بلا وعي مضينا
أهل هذي صلات الرحم هانت فكان المكر كيد الكائدينا
أهل هذي فعال الخير زالت فصار الود مكروها لعينا
أهل هذي بذور الشر سادت فأصبحنا نعادي ناصحينا
أهل هذي طباع الغاب عادت وسبع الغاب قد هجر العرينا
رحيلك عابد قاس علينا فللجنات فيها أجمعينا
الكاتب المقال: ياسين أبو سيف ياسين
مدونة عبد المجيد أحمد العشيبي
تعليقات
إرسال تعليق